بقلم: محمد السماكيبدو مسيحيو الشرق في حيرة من أمرهم إزاء الانتفاضات الثورية التي تجتاح العالم العربي. وتنطلق هذه الحيرة من أمر بوجهين متكاملين. الوجه الأول هو أن هذه الانتفاضات تثور على بعض الأنظمة الاستبدادية العربية. وأنها تحاول استعادة حقوق الإنسان العربي في الحرية والكرامة والحقوق الإنسانية العامة الأخرى، ومن بينها حق المشاركة في صناعة القرار الوطني.
ويعاني مسيحيو الشرق، كما يعاني مسلموه، من استبداد تلك الأنظمة ومن انتهاكاتها المتمادية لحقوقهم الأساسية، ولذلك فإنهم لا يستطيعون من حيث المبدأ إلا أن يكونوا إلى جانب هذه الانتفاضات الثورية، بل في أساسها. وثمة سوابق تاريخية ثلاث مماثلة: الانتفاضة العربية ضد التتريك، والانتفاضة العربية ضد الاستعمار الأوروبي (الفرنسي والبريطاني)، والانتفاضة العربية ضد الاحتلال الصهيوني.
ولم يكن مسيحيو الشرق مجرد مشاركين في تلك الانتفاضات، بل كانوا قياديين فيها ولها. ولذلك فإنهم لا يستطيعون اليوم إلا أن يكونوا جزءاً من الانتفاضات الجديدة ضد الاستبداد الداخلي الذي عانوا منه طويلاً كسائر المواطنين العرب الآخرين. ومن أبرز علامات هذه المعاناة الهجرة المسيحية من معظم دول المنطقة.
إن أهمية المشاركة الجامعة في هذه الانتفاضات تؤكد أن الشعوب العربية أخضعت للاستبداد ولم تخضع له، وأنها بالتالي تمتلك الإرادة الذاتية للتخلص منه، وأنها لا تعاني من قابلية الخضوع للاستبداد. والمسيحيون هنا ليسوا استثناء، بل إنهم بحكم ثقافتهم في أساس هذه القاعدة.
أما الوجه الثاني للحيرة المسيحية فينطلق من عدم وجود بديل واضح أو حتى مجرد تصور راجح لماهية النظام الاستبدادي الذي ينتفض الناس للتخلص منه. وتصل الحيرة إلى حد القلق من احتمال أن تشكل هذه الانتفاضات رافعة لقوى إسلامية متطرفة للوصول إلى السلطة. إن لهذا القلق ما يبرره، بل إن إنكاره هو تجاهل لحقيقة ساطعة. ولا يكفي للمسلمين أن يقولوا للمسيحيين لا تقلقوا حتى يتبدد القلق، بل لابد من عمل ما يساعد على إزالته.
وفي الأساس فإن ما يجري في بعض العالم العربي هو انتفاضات شعبية وليس انقلابات عسكرية. فالانقلاب يأتي بقيادة جاهزة، وببيان أول جاهز، وبرؤية للحكم جاهزة أو مجهزة. أما الانتفاضة الثورية، فليست عملية تغيير من فوق، إنها عملية اجتثاث لنظام استبدادي من جذوره وهي لا تملك بطبيعتها لا قيادة ولا برنامج عمل. وكل ما تملكه هو الشعارات العامة بالحرية والكرامة ومحاربة الاستبداد ومكافحة الفساد. وبقدر ما يشكل هذا الواقع قوة دفع لها، فإنه يشكل نقطة ضعف أيضاً. ذلك أن التعميم في شعارات التغيير، وفي المشاركة التي تتجاوز حدود الطوائف والمذاهب والمناطق، يفتح الأبواب أمام صيادي الفرص من مختلف التوجهات ومنهم الإسلاميون المتطرفون أيضاً. ومن هنا يجب تفهم طبيعة ومشروعية القلق المسيحي في ضوء تجارب الأحداث العدوانية التي عرفها العراق ومصر -إلى حد ما- والتي شعر المسيحيون بأنهم كانوا هدفاً لها.
والحال أن هذا القلق، الذي وصل إلى حد الخوف، يضع مسيحيي الشرق أمام أمرين أحلاهما مرّ؛ إما الوقوف إلى جانب النظم الاستبدادية التي عانوا منها كغيرهم من المواطنين، وذلك على أساس أنهم يعرفون حجم المعاناة وأنهم تآلفوا معها؛ وإما مواجهة معاناة أشد قد تترتب على نظام التطرف الديني. فالتطرف قد يستهدفهم في عقيدتهم وفي حريتهم الدينية. وتؤسس هذه التخوفات لمنطق يقودهم إلى العمل بمعادلة قبول الضرر الأقل لمنع وقوع الضرر الأكبر. وهو منطق يبرر أو يشجع مسيحيي الشرق على إخراج أنفسهم من دائرة المشاركة الطبيعية في انتفاضات التغيير العربية، للدخول في دائرة المشاركة غير الطبيعية ولو غير المباشرة في الدفاع عن الأنظمة الاستبدادية.
ويدرك مسيحيو الشرق بلاشك أن هذا المنطق يتناقض مع الأدوار التاريخية التي قاموا بها، والتي ساهمت في بلورة الشخصية العربية، وفي النهضة العربية الحديثة، وفي حركات الاستقلال الوطني. كما يدركون أنه يتناقض أساساً مع طبائعهم الإنسانية، ومع المقومات الحميمة لهويتهم الثقافية الدينية. ويعكس هذا الأمر بوجهيه صراعاً ذاتيّاً في أعماق الشخصية المسيحية الشرقية. وهو صراع يفرز كمّاً من علامات الاستفهام الكبيرة التي لا تتوفر إجابات جاهزة عليها. ومن علامات الاستفهام هذه: ماذا لو ربحت الأنظمة الاستبدادية المعركة المصيرية التي تخوضها للدفاع عن ذاتها؟ في هذا المجال فإن الإسلاميين لن يكونوا وحدهم ضحاياها. إن كل المواطنين مسلمين ومسيحيين سيدفعون الثمن. وحتى إذا لانت الأنظمة وعملت فيما بعد على استرضاء الإسلاميين (وهناك سوابق عديدة عرفتها مصر تحديداً في عهد السادات)، فإن المسيحيين سيكونون أول ضحاياها.
ومن علامات الاستفهام أيضاً: ماذا لو انتصرت الانتفاضات الشعبية على الأنظمة الاستبدادية، وتجاوزت مرحلة الاضطرابات المتوقعة التي تمر بها حاليّاً، واستقرت على صيغة ما في السلطة الجديدة؟ ماذا يكون موقف مسيحيي الشرق منها إذا كانوا قد تخلوا عنها أثناء الشدّة وساندوا السلطة الاستبدادية؟
لقد كان مسيحيو الشرق جزءاً أساسيّاً من السلطات الوطنية في مصر وسوريا والأردن ولبنان بعد التحرر من الاستعمار لأنهم كانوا ضد الاستعمار.. فأي دور سيكون لهم بعد التحرر من الاستبداد إذا لم يكونوا ضد الاستبداد؟
ومن الأسئلة التي تعكس احتمالات واقعية أكثر تعقيداً وخطورة السؤال التالي: ماذا يحدث لو تجاوبت الأنظمة مع دعوات الإصلاح، وتخلت عن الاستبداد واحترمت حقوق الناس وكرامتهم؟ ماذا إذا انتهت الانتفاضات إلى إصلاح الأنظمة وليس إلى إسقاطها؟ أي مستقبل يكون للمسيحيين الشرقيين في الوضع الجدي؟ فإذا كانوا مع الأنظمة في معركتها ضد الانتفاضات، فإن مصالحهم قد تصبح جزءاً من الثمن الذي ستدفعه هذه الأنظمة لحركات التغيير. وإذا لم يكونوا مع الأنظمة ولا مع الانتفاضات، فإن تغييب حضورهم قد يؤدي إلى تغييب دورهم وتاليّاً إلى تغييب مصالحهم وربما إلى تغييب حقوقهم في عملية المساومة على تركيب الوضع الجديد.
ومن أجل ذلك من المهم إلقاء الضوء على الأمور التالية: الأمر الأول هو أن مسيحيي الشرق الذين عانوا طويلاً، ولا يزالون يعانون من استبداد الأنظمة السياسية، لا يستطيعون إلا أن يكونوا في مقدمة الصفوف الداعية إلى الإصلاح والعاملة عليه.
والأمر الثاني هو أن الأخلاق المسيحية، والثقافة المسيحية والمصالح الوطنية للمسيحيين، تزيدهم التزاماً بالعمل على مكافحة الاستبداد والفساد والظلم وانتهاك الكرامة الإنسانية.
والأمر الثالث هو أن الانتفاضات التي تعصف بالعالم العربي ليست من وحي خارجي، ولكنها استجابة لمعاناة داخلية. والمسيحيون جزء من هذا الداخل العربي، وجزء من هذه المعاناة، وبالتالي فهم يستطيعون أن يكونوا جزءاً من القوة الخلاصية ومن نور الأمل بغد أفضل.
والأمر الرابع هو أن هذه الانتفاضات التي لا تملك مشروعاً للمستقبل معرضة لأن تستغل كمركبة لنقل أنواع متعددة من الانتهازيين السياسيين والعقائديين والإسلاميين المتطرفين إلى السلطة. وهو أمر تحتاج هذه الانتفاضات من أجل التصدي له إلى الاستقواء بمسيحيي الشرق. أما سلبيتهم، أو حتى انكفاؤهم فمما يضعف هذه الانتفاضات ويعزز من حظوظ القوى الانتهازية المتربصة.
والأمر الخامس هو أن نجاح الانتفاضات أولاً في التخلص من السلطات المستبدة، وثانيّاً في قطع الطريق أمام الانتهازيين من صيادي الفرص، لابد أن يتوّج بوضع عقد اجتماعي إسلامي- مسيحي عربي، يقيم الدولة الوطنية ويحترم الحقوق الدينية ويرسي قواعد المساواة في المواطنة.
نقلا عن جريدة الاتحاد